الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَلَكِنْ هَذَا قَدْ يَزُولُ وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُك (الْمُتَوَكِّلَ) لَسْت بِفَظِّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سخاب فِي الْأَسْوَاقِ. وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ. وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى أُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ فَأَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا. وَقَدْ قال: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقول عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يُؤْمِنُونَ. ثُمَّ قال: {إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} إلَى قوله: {إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} فَهَذَا هُوَ الْإِنْذَارُ التَّامُّ وَهُوَ الْإِنْذَارُ الَّذِي يَقْبَلُهُ الْمُنْذِرُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ. وَقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} هُوَ أَصْلُ الْإِنْذَارِ كَمَا يُقال فِي الْبَلِيدِ وَالْمَشْغُولِ الذِّهْنِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ: سَوَاءٌ عَلَيْك أَعْلَمْته أَمْ لَمْ تُعْلِمْهُ لَا يَتَعَلَّمُ وَلَا يَقْبَلُ الهدى وَيُقال فِي الذَّكِيِّ الْفَارِغِ: إنَّمَا يَتَعَلَّمُ مِثْلُ هَذَا. ثُمَّ الْمَشْغُولُ قَدْ يَتَفَرَّغُ. وَقَدْ يَصْلُحُ ذِهْنٌ بَعْدَ فَسَادِهِ وَيَفْسُدُ بَعْدَ صَلَاحِهِ لِفَسَادِ قَلْبِهِ وَصَلَاحِهِ. وَعَلَى هَذَا الْقول أَكْثَرُ تَفْسِيرِ السَّلَفِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ.قال ابْنُ إسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَإِنْ قالوا: إنَّا قَدْ آمَنَّا بِمَا جَاءَنَا قَبْلَك {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أَيْ إنَّهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذكرك وَجَحَدُوا مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمِيثَاقِ فَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَك وَبِمَا عِنْدَهُمْ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ غَيْرُك. فَكَيْفَ يَسْمَعُونَ مِنْك إنْذَارًا وَتَحْذِيرًا؟ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ الْإِنْذَارَ لِكُفْرِهِمْ بِمَا عِنْدَهُمْ وَمَا جَاءَهُمْ مِنْ الْحَقِّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنْهُمْ خلقا تَابُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَآمَنُوا. وَرُوِيَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قال: آيَتَانِ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}.قال: هُمْ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}.قُلْت: جَعَلَهُمْ قَادَةَ الْأَحْزَابِ لِكَوْنِهِمْ أَضَلُّوا الْأَتْبَاعَ فَأَحَلُّوهُمْ دَارَ الْبَوَارِ. وَالْأَحْزَابُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ قَدْ أَسْلَمَ عَامَّةُ قَادَتِهَا وَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ مِثْلُ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَأَبِي سُفْيَان. وَهَؤُلَاءِ أَسْلَمَ مِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ وَهُمْ الطُّلَقَاءُ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَالْحِزْبُ الْآخَرُ غطفان وَقَدْ أَسْلَمُوا أَيْضًا.وَالْآيَةُ لابد أَنْ تتنَاوَلَ كُفَّارَ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا قال ابْنُ إسْحَاقَ فَإِنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ وَإِنْ تَنَاوَلَتْ مَعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ. فَهِيَ تَعُمُّ كُلَّ كَافِرٍ. وَمُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ يَخُصُّهَا بِبَعْضِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. وَابْنُ السَّائِبِ يَقول: هِيَ إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ مِنْهُمْ حيي بْنُ أَخْطَبَ. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ. وَأَبُو الْعَالِيَةِ يَقول: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ. وَالْآيَةُ تَعُمُّ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَغَيْرُهُمْ كَمَا أَنَّ آيَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ النُّزُولِ وَهِيَ تَعُمُّهُمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} كَقوله: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} وَقوله: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ}. وَكُلُّ هَذَا فِيهِ بَيَانُ أَنَّ مُجَرَّدَ دُعَائِك وَتَبْلِيغِك وَحِرْصِك عَلَى هُدَاهُمْ لَيْسَ مُوجِبُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا شَاءَ اللَّهُ هُدَاهُمْ فَشَرَحَ صُدُورَهُمْ لِلْإِسْلَامِ كَمَا قال تعالى: {إنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} فَفِيهِ تَعْزِيَةٌ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيَّنَتْ الْآيَةُ لَهُ أَنَّ تَبْلِيغَك وَإِنْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَفِيهِ مَصَالِحُ عَظِيمَةٌ غَيْرُ ذَلِكَ. وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الهدى هُدَى اللَّهِ. ف {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} وَقَدْ قال لَهُ {إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. فَفِيهِ تَقْرِيرُ التَّوْحِيدِ وَتَقْرِيرُ مَقْصُودِ الرِّسَالَةِ. وَهُوَ سبحانه أَخْبَرَ عَمَّنْ لَا يُؤْمِنُ فَقال: {إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ}.وقال: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}. ثُمَّ قال: {لَقَدْ حَقَّ الْقول عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. فَخَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي تِلْكَ {إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ}. وَهُمْ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقول أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمْ مَا قالهُ اللَّهُ سبحانه وَكَتَبَهُ وَقَدَّرَهُ. فَجَعَلَ الْمُوجَبَ هُوَ التَّقْدِيرُ السَّابِقُ وَهُوَ قوله. وَالْقول وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ خَبَرًا مُجَرَّدًا بِمَا سَيَكُونُ وَقَدْ يَكُونُ قولا يَتَضَمَّنُ أَشْيَاءَ كَالْيَمِينِ الْمُتَضَمِّنَة لِلْحَضِّ وَالْمَنْعِ. فَقَدْ ذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ تَقَدُّمَ الْيَمِينِ كَقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقول مِنِّي} وَنَحْوُ ذَلِكَ.فَهُوَ خَبَرٌ عَمَّا قالهُ أَوْ قالهُ وَكَتَبَهُ. وَهُوَ التَّقْدِيرُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ قَدَّرَ مَا يَفْعَلُهُ وَعَلِمَهُ وَكَتَبَهُ كَمَا تَظَاهَرَتْ النُّصُوصُ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخلق السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَالْقَدَرُ تَضَمَّنَ عِلْمَهُ بِمَا سَيَكُونُ وَمَشِيئَتَهُ لِوُجُودِ مَا قَدَّرَهُ وَعَلِمَ أَنْ سَيَخلقهُ. وَالْقول قَدْ يَكُونُ خَبَرًا وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ الْحَضِّ وَالْمَنْعِ بِالْقَسَمِ وَإِمَّا لِكِتَابَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ كَقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وَقوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وَقوله: «يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا».وَأَمَّا قوله: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} فَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ. وَهُوَ الْوَعِيدُ الْمُتَضَمِّنُ الْجَزَاءَ عَلَى الْأَعْمَالِ كَمَا قال تعالى لإبليس {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}.وَقوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} أَيْ إنَّ عَذَابَهُمْ لَهُ أَجَلٌ مُسَمًّى إمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِمَّا فِي الدُّنْيَا كَيَوْمِ بَدْرٍ وَإِمَّا عَقِبَ الْمَوْتِ وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ. فَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّك إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَكَانَ الْعَذَابُ لِزَامًا أَيْ لَازِمًا لَهُمْ. فَإِنَّ الْمُقْتَضِي لَهُ قَائِمٌ تَامٌّ وَهُوَ كُفْرُهُمْ.وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ الْقول عَلَى الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ. فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ إذْ كَانَ أُولَئِكَ غَيْرُ مَعْرُوفِينَ وَإِنَّمَا هُمْ طَائِفَةٌ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقول وَهُمْ لَا يَتَمَيَّزُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ. بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِإِنْذَارِ الْجَمِيعِ وَفِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ. فَذَكَرَ اللَّفْظَ الْعَامَّ؛ وَإِرَادَةُ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ الْخَاصِّ. وَذَكَرَ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ قَطُّ وَلَا فِيهِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ. وَكَلَامُ اللَّهِ تعالى يُصَانُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وَمَا ذَكَرَ مِنْ الْمَوَانِعِ هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْإِنْذَارَ سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لِسَبَبِ يُوجِبُ ذَلِكَ فَيَمْتَنِعُ قَبُولُ الْإِنْذَارِ بِسَبَبِ الْمَوَانِعِ. وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَوَانِعَ قَدْ تَزُولُ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَازِمَةً لِكُلِّ كَافِرٍ. وَإِذَا كَانَ الْمَانِعُ مَا سَبَقَ مِنْ الْقول الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِمْ فَقَدْ لَا يَزُولُ أَبَدًا كَمَا قال: {إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}. وَقَدْ يَذْكُرُ هَذَا وَهَذَا.وَأَمَّا إذَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْمَوَانِعِ الَّتِي فِيهِمْ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا سَبَقَ مِنْ الْقول فَهَذِهِ الْمَوَانِعُ يُرْجَى زَوَالُهَا وَيُمْكِنُ مَا لَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا مَا يَقْتَضِي امْتِنَاعَ تَغَيُّرِ حَالِهِمْ وَحُصُولِ الهدى.فَصْلٌ:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}. جَاءَ الْخِطَابُ فِيهَا بـ: (ما) وَلَمْ يَجِئْ بـ: (من) فَقِيلَ: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} لَمْ يَقُلْ (لَا أَعْبُدُ مَنْ تَعْبُدُونَ) لِأَنَّ (من) لِمَنْ يعلم وَالْأَصْنَامُ لَا تَعْلَمُ.وَهَذَا الْقول ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإِنَّ مَعْبُودَ الْمُشْرِكِينَ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يعلم كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَمَنْ لَمْ يعلم.وعندَ الِاجْتِمَاعِ تَغْلِبُ صِيغَةُ أُولِي الْعِلْمِ كَمَا فِي قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ}. فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِحَالِ مَنْ يعلم عَبَّرَ عَنْهُمْ بِعِبَادَتِهِ كَمَا فِي قوله: {إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} الْآيَةَ فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ وَهُوَ لِأُولِي الْعِلْمِ.وَأَمَّا مَا لَا يعلم فَجَمْعُهُ مُؤَنَّثٌ كَمَا تَقول: الْأَمْوَالُ جَمَعْتهَا وَالْحِجَارَةُ قَذَفَتْهَا. ف (ما) هِيَ لِمَا لَا يعلم وَلِصِفَاتِ مَنْ يعلم. وَلِهَذَا تَكُونُ لِلْجِنْسِ الْعَامِّ لِأَنَّ شُمُولَ الْجِنْسِ لِمَا تَحْتَهُ هُوَ بِاعْتِبَارِ صِفَاتِهِ كَمَا قال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} أَيْ الَّذِي طَابَ وَالطَّيِّبُ مِنْ النِّسَاءِ. فَلَمَّا قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنْ الْمَوْصُوفِ بِالطَّيِّبِ وَقَصَدَ هَذِهِ الصِّفَةَ دُونَ مُجَرَّدِ الْعَيْنِ عَبَّرَ بـ: (ما). وَلَوْ عَبَّرَ بـ: (من) كَانَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ الْعَيْنِ وَالصِّفَةُ لِلتَّعْرِيفِ حَتَّى لَوْ فُقِدَتْ لَكَانَتْ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ كَمَا إذَا قُلْت: جَاءَنِي مَنْ يَعْرِفُ وَمَنْ كَانَ أَمْسِ فِي الْمَسْجِدِ وَمَنْ فَعَلَ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَالْمَقْصُودُ الْإِخْبَارُ عَنْ عَيْنِهِ وَالصِّلَةُ لِلتَّعْرِيفِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ قَدْ ذَهَبَتْ. وَمِنْهُ قوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بناها وَالْأَرْضِ وَمَا طحاها} {وَنَفْسٍ وَمَا سواها} عَلَى الْقول الصَّحِيحِ إنَّهَا اسْمٌ مَوْصُولٌ وَالْمَعْنَى: وَبَانِيهَا وَطَاحِيهَا وَمُسَوِّيهَا وَلَمَّا قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زكاها وَقَدْ خَابَ مَنْ دساها} أَخْبَرَ بـ: (من) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ عَنْ فَلَاحِ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ لِلتَّزْكِيَةِ وَالتَّدْسِيَةِ قَدْ ذَهَبَ فِي الدُّنْيَا. فَالْقَسَمُ هُنَاكَ بِالْمَوْصُوفِ بِحَيْثُ إنَّهُ إنَّمَا أَقْسَمَ بِهَذَا الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةُ لَازِمَةٌ. فَإِنَّهُ لَا تُوجَدُ مَبْنِيَّةً إلَّا بِبَانِيهَا وَلَا مطحية إلَّا بِطَاحِيهَا وَلَا مُسَوَّاةً إلَّا بِمُسَوِّيهَا. وَأَمَّا الْمَرْءُ الْمُزَكِّي نَفْسَهُ وَالْمُدَسِّيهَا فَقَدْ أنقضى عَمَلُهُ فِي الدُّنْيَا وَفَلَاحُهُ وَخَيْبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ لَيْسَا مُسْتَلْزِمَيْنِ لِذَلِكَ الْعَمَلِ. وَنَحْوُ هَذَا قوله: {وَمَا خلق الذَّكَرَ والأنثى}. وَلِهَذَا يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنْ صِفَاتِ مَنْ يعلم فِي قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} كَمَا يُسْتَفْهَمُ عَلَى وَجْهٍ بِهَا فِي قوله: {مَ إذا تَعْبُدُونَ}. وَأَمَّا قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خلق السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقولنَّ اللَّهُ} فَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ عَيْنِ الْخَالِقِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآلِهَةِ الَّتِي تُعْبَدُ. فَإِنَّ الْمُسْتَفْهِمِينَ بِهَا كَانُوا مُقِرِّينَ بِصِفَةِ الْخَالِقِ وَإِنَّمَا طَلَبَ بِالِاسْتِفْهَامِ تَعْيِينَهُ وَتَمْيِيزَهُ وَلِتُقَامَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِاسْتِحْقَاقِهِ وَحْدَهُ الْعِبَادَةَ. وَأَمَّا فِرْعَوْنُ فَكَانَ مُنْكِرًا لِلْمَوْصُوفِ الْمُسَمَّى فَاسْتَفْهَمَ بِصِيغَةِ (ما) لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقرأ بِهِ طَالِبًا لِتَعْيِينِهِ. وَلِهَذَا كَانَ الْجَوَابُ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ بِقول مُوسَى {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَبِقوله: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأولين} فَأَجَابَ أَيْضًا بِالصِّفَةِ. وَهُنَاكَ قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خلقهُمْ لَيَقولنَّ اللَّهُ} فَكَانَ الْجَوَابُ بِالِاسْمِ الْمُمَيِّزِ لِلْمُسَمَّى عَنْ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ قوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} إلَى تَمَامِ الْآيَاتِ.فَقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} يَقْتَضِي تَنْزِيهَهُ عَنْ كُلِّ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ مَعْبُودُهُمْ. لِأَنَّ كُلَّ مَا عَبَدَهُ الْكَافِرُ وَجَبَتْ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ كَافِرًا لَا يَكُونُ مَعْبُودُهُ الْإِلَهَ الَّذِي يَعْبُدُهُ الْمُؤْمِنُ. إذْ لَوْ كَانَ هُوَ مَعْبُودَهُ لَكَانَ مُؤْمِنًا لَا كَافِرًا. وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أُمُورًا. أحدهَا: أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ بَرَاءَتَهُ مِنْ أَعْيَانِ مَنْ يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ.الثاني: أَنَّهُمْ إذَا عَبَدُوا اللَّهَ وَغَيْرَهُ فَمَعْبُودُهُمْ الْمَجْمُوعُ وَهُوَ لَا يَعْبُدُ الْمَجْمُوعَ لَا يَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ. فَيَعْبُدُهُ عَلَى وَجْهِ إخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ لَا عَلَى وَجْهِ الشِّرْكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قول الْخَلِيلِ {إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} وَقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} بِأَنْ يُقال: هُنَا نَفْيُ عِبَادَةِ الْمَجْمُوعِ وَذَلِكَ لَا يَنْفِي عِبَادَةَ الواحد الَّذِي هُوَ اللَّهُ. وَالْخَلِيلُ تَبَرَّأَ مِنْ الْمَجْمُوعِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْبَرَاءَةَ مِنْ كل واحد فَاسْتَثْنَى. أَوْ يُقال: الْخَلِيلُ تَبَرَّأَ مِنْ جَمِيعِ الْمَعْبُودِينَ مِنْ الْجَمِيعِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَثْنَى رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَلِهَذَا لَمَّا وَقَعَ مُسْتَثْنًى فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ فِي قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قالوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} لَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِثْنَاءٍ آخَرَ. وَأَمَّا هَذِهِ السُّورَةُ فَإِنَّ فِيهَا التَّبَرِّي مِنْ عِبَادَةِ مَا يَعْبُدُونَ لَا مِنْ نَفْسِ مَا يَعْبُدُونَ. وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَمِنْ عِبَادَتِهِمْ وَمِمَّا يَعْبُدُونَ. فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بَاطِلٌ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقول اللَّهُ: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ». فَعِبَادَةُ الْمُشْرِكِ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ لَا يُقال: نَصِيبُ اللَّهِ مِنْهَا حَقٌّ وَالْبَاقِي بَاطِلٌ بِخِلَافِ مَعْبُودِهِمْ. فَإِنَّ اللَّهَ إلَهٌ حَقٌّ وَمَا سِوَاهُ آلِهَةٌ بَاطِلَةٌ. فَلَمَّا تَبَرَّأَ الْخَلِيلُ مِنْ الْمَعْبُودِينَ احْتَاجَ إلَى اسْتِثْنَاءِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ تَبَرُّؤُهُ مِنْ أَنْ يَعْبُدَ مَا يَعْبُدُونَ فَكَانَ الْمَنْفِيُّ هُوَ الْعِبَادَةَ تَبَرَّأَ مِنْ عِبَادَةِ الْمَجْمُوعِ الَّذِينَ يَعْبُدُهُمْ الْكَافِرُونَ.الثالث: إنْ كَانَ النَّفْيُ عَنْ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ مَعْبُودُهُمْ لَا عَنْ عَيْنِهِ فَهُوَ لَا يَعْبُدُ شَيْئًا مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْبُودُهُمْ. لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْبُودُهُمْ هُمْ مُشْرِكُونَ بِهِ فَوَجَبَتْ الْبَرَاءَةُ مِنْ عِبَادَتِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ. وَلَوْ قال (مَنْ تَعْبُدُونَ) لَكَانَ يُقال: إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّ النَّفْيَ وَاقِعٌ عَلَى عَيْنِ الْمَعْبُودِ. وَلَيْسَ إذَا لَمْ يَعْبُدْ مَا يَعْبُدُونَ مُتَبَرِّئًا مِنْهُ وَمُعَادِيًا لَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ. بَلْ هُوَ تَارِكٌ لِعِبَادَةِ مَا يَعْبُدُونَ. وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْوَجْهِ الرَّابِعِ: وَهُوَ قوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} نَفَى عَنْهُمْ عِبَادَةَ مَعْبُودِهِ. فَهُمْ إذَا عَبَدُوا اللَّهَ مُشْرِكِينَ بِهِ لَمْ يَكُونُوا عَابِدِينَ مَعْبُودَهُ. وَكَذَلِكَ هُوَ إذَا عَبَدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا مَعْبُودَهُمْ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُمْ لَوْ عَيَّنُوا اللَّهَ بِمَا لَيْسَ هُوَ اللَّهُ وَقَصَدُوا عِبَادَةَ اللَّهَ مُعْتَقِدِينَ أَنَّ هَذَا هُوَ اللَّهُ كَاَلَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ وَاَلَّذِينَ عَبَدُوا الْمَسِيحَ وَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ الدَّجَّالَ وَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَهَوَاهُمْ وَمَنْ عَبَدَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَهُمْ عِنْدَ نُفُوسِهِمْ إنَّمَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ لَكِنَّ هَذَا الْمَعْبُودَ الَّذِي لَهُمْ لَيْسَ هُوَ اللَّهَ. فَإِذَا قال: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} كَانَ مُتَبَرِّئًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَعْبُودِينَ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الْعَابِدِينَ هُوَ اللَّهُ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُمْ إذَا وَصَفُوا اللَّهَ بِمَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ كَالصَّاحِبَةِ وَالْولد وَالشَّرِيكِ وَأَنَّهُ فَقِيرٌ أَوْ بَخِيلٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ وَعَبَدُوهُ كَذَلِكَ. فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْمَعْبُودِ الَّذِي لِهَؤُلَاءِ. فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ اللَّهَ كَمَا قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلَّا تَرَوْنَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي سَبَّ قُرَيْشٍ؟ يَسُبُّونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ». فَهُمْ وَإِنْ قَصَدُوا عَيْنَهُ لَكِنْ لَمَّا وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ مُذَمَّمٌ كَانَ سَبُّهُمْ وَاقِعًا عَلَى مَنْ هُوَ مُذَمَّمٌ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وَذَاكَ لَيْسَ هُوَ اللَّهَ. فَالْمُؤْمِنُونَ بُرَاءُ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا وَصَفَ بِهِ الرَّسُولُ رَبَّهُ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَعْبُدْ مَا عَبَدَهُ الرَّسُولُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ. وَقِسْ عَلَى هَذَا فَلْتتأَمَّلْ هَذِهِ الْمَعَانِيَ وَتُلَخِّصْ وَتُهَذِّبْ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ. اهـ.
|